الشعر العربى

لم يسبق العرب قومًا في المفاخرة بالخيل وفضلها وشرف نسبها وشجاعتها وجريها وجمالها، ولم يأتِ بعدهم من الأقوام من جعل للخيل هذه المكانة الغالية. لقد أولاها العرب منزلةً عالية، لا تدانيها منزلة، فقد ساووها بالأولاد والأهل، وآثروها عليهم وعلى أنفسهم. فقد كانت الفرس للعربي بمثابة فرد من أفراد العائلة، وعنصرًا مهمًّا جدًّا من عناصر بقاء العربي وسلامته، وقد خلدوا خيلهم بالآلاف من الأبيات الشعرية التي تصف شجاعتها وجمالها ووفاءها.

لقد حظيت الخيل بعناية المؤلفين القدامى؛ فأفردوا لها الكتب والرسائل والشعر والحكم والأمثال، وتابعهم المتأخرون في هذه العناية، وقد وصل جزء يسير مما قاله الأقدمون وضاع كثيره، وقد عرفنا من خلال الإشارات التي تذكرها كتب الخيل واللغة وفهارس الكتب بعضًا مما ألف عن الخيل والفروسية، وما جهلناه أكثر، ونذكر هنا ما ألف في هذا الإطار من أشعار وحكم وأمثال وأقوال قيلت في الخيل العربي.

العربي حين يخاطب الفرس، كأنما يخاطب أعز أبنائه، وهو يتألم عندما تمرض فرسه، ويحزن عندما تهلك ويفرح حينما تنتج، ويؤثرها في البرد بلحافه، ويفديها في المعارك بنفسه، قال ثعلبة بن عمرو الشيباني:

إنَّ عربيًّا وإن ساءَنِي   أَحَبُّ حبيبٍ وأَدْنىَ قَريبْ
سَأَجْعَلُ نَفْسِي لَه جُنَّةً   بِشَاكي السِّلاِح نَِهيكٍ أَرِيبْ

لقد أعرب ثعلبة في هذين البيتين عما تكنه نفسه من تعلق شديد واهتمام عظيم، وحب مفرط لفرسه، فجعله في المنزلة التي لا يصل إليها أحد من نفسه، مهما بلغ من الحب، ومهما اتصل بالقرب. ففرسه (عريب) أحب حبيب وأدنى قريب.

ونلاحظ أن ثعلبة أعطى هذه المكانة لعريب، وإن ساءه في بعض الأحيان. وهذا تعلق عظيم وحب شديد، لا تفصمه الإساءة، ولا ينقصه التكدير، ثم يرقى ثعلبة إلى درجة التضحية بنفسه في سبيل حماية فرسه جنة لوقاية فرسه، وبكل إقدام وشجاعة.

وهذا شداد بن معاوية العبسي. والد عنترة بن شداد. كان يعرف بفارس جروة (فرسه) ويقول فيها:

فَمَن يَكُ سائِلاً عَنّي فَإِنّي   وَجِروَةَ لا تَرودُ وَلا تُعارُ
مُقَرَّبَةَ الشِتاءِ وَلا تَراها   وَراءَ الحَيِّ يَتبَعُها المِهارُ
لَها بِالصَيفِ أَصبِرَةٌ وَجِلٌّ   وَنيبٌ مِن كَرائِمِها غِزارُ

والمعنى أنه اقتناها للحرب فلا تباع ولا تعار ولا يطلب نسلها، كما أنه يعطيها قوته ويلحفها رداءه معزة بها، ويقدم لها الجرجار (نوع من النبات) صيفًا. ولها من كرائم الإبل ست نوق تشرب من ألبانها.

وهذا عبيدة بن ربيعة التميمي يطلب منه أحد الملوك العرب فرسه سكاب؛ فيقول:

تصوير الدكتور نصر مرعي
أبيت اللعن إن سكاب علقٌ       نفيسٌ لا يباع ولا يعار
مفداةٌ مكرمةٌ علينا       يجاع لها العيال ولا تجاع
سليلة سابقين تناجلاها       إذا نسباً يضمهما الكراع
وفيها عزةٌ من غير نفرٍ       يحيدها إذا حر القراع
فلا تطمع أبيت اللعن فيها       ومنعكها بشيء يستطاع
وكفى يستقل بحمل سيفي       وبي ممن تهضمني امتناع

إنه يفضلها على أولاده ويجيعهم ليشبعها، وهذا منتهى الإعزاز. ولنقف عند قوله: "مفداة"، فهو يعطينا صورة عن تمسكه بفرسه ولو نفاستها وكرامتها عليه وإيثارها على أهله، فيذكر نسبها ويقول: إنها سليلة أفراس منتخبة، يضم نسبها من طرفيه فحلاً مشهورًا، ثم يذكر صفة من أهم الصفات التي يهتم بها العرب وهي مرانها في ساحات الحرب، وإنها تعطي لفارسها المجال للضرب والطعن، وتطاوعه على الانعطاف والالتفاف دون نفور أو جموح ثم يقف بكل إباء وعزة رافضًا الإغراء مهما بلغ، والتهديد مهما عظم، مضحيًا بنفسه في سبيل الحفاظ عليها، فليس لأحد مطمع في أن ينالها ولو كان ملكًا، وإنه لن يسلمها ويده تقدر على حمل سيفه؛ ذلك لأنه لا يقبل الظلم، ولديه الشجاعة التي تمنعه من أن يظلم.

ويقول خالد بن جعفر بن كلاب:

أديروني إدارتكم فإني       وحذفة كالشجا تحت الوريد
مقربة أسويها بجزءٍ       وألحفها ردائي في الجليد
وأوصي الراعيين ليؤثراها       لها لبن الخلية والصعود
تراها في الغزاة هن شعثٍ       كقلب العاج في الرسغ الجديد
يبيت رباطها بالليل كفي       على عود الحشيش وغير عود
لعل الله يمكنني عليها       جهاراً من زهيرٍ أو أسيد

وها نحن أمام صورة أخرى تبين لنا مدى اهتمام العربي بفرسه واعتزازه بها، وحرصه عليها، فلها عنده المكانة العليا، والمنزلة الرفيعة، التي لا تزحزح عنها، وهي مكرمة يساويها بأعز أبنائه "جزء" ويؤثرها على نفسه؛ فيرفع الرداء عنها في الليلة الباردة ليضعه عليها، ويأمر الراعيين ليختصاها باللبن الغزير من الخلية (وهي الناقة يجر ولدها؛ فيجعل تحت أخرى وتخلى للحلب)، والصعود (هي الناقة يجر ولدها لغير تمام، فتعطف على ولد غيرها فتدر)، ثم يصفها في حالة الحرب بالشعثاء، وكأنها أسوار تلمع من الجدة؛ لشدة العناية بها، ثم يقول: "يبيت رباطها في الليل كفي". وهذا منتهى الرعاية ومبلغ العناية، فهو يسهر لترتاح فرسه، ومع ذلك فإنه يسهر لا ليطعمها ويسقيها فقط أو ليتأكد من إطعامها وريها، ولكن أيضًا وللمحافظة عليها والاعتزاز بها، انظر إلى قوله: "على عود الحشيش وغير عود"، فهي لا تفارق كفه، وإن كان مطمئنًا لإطعامها وريها. وخُلِّد هذا البيت من ثلاثة بيوت في العرب، اشتهر بعزها الباذخ ومكانتها العالية الرفيعة، وهو أحد زعماء هذا البيت المشهور، وهو هنا يعتز بخدمته لفرسه.

ويقول مالك بن نوبرة اليربوعي:

تصوير الدكتور نصر مرعي
جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي       إذ بات أطواءً بنيَ الأصاغر
أعلُلهم عَنه ليُغبَق دونهمٍ       واعلم علم الضن أنُي مغاور
رأَى أنني ألا بالقليل أهوره       ولا أَنا عنه في المواساة ظاهر

لقد أوضح مالك في هذه الأبيات تفضيله لفرسه، وإيثاره على أبنائه الصغار الذين يتضورون جوعًا، وكيف أنه يخادعهم حتى يقدم له غذاءهم ويقول:

إذا ضيّع الأنذال في المَحْل خيلَهُم       فلم يركبوا حتى تهيجُ المصايفُ
كفاني دوائي ذَا الخُمار وصنعتي       ٍعلى حينَ لا يقْوى على الخيل عالفُ
أُعلِّل أَهْلي عن قليلِ متاعِهِمْ       وأسقيه مَحْضَ الشَّوْل والحيُّ هاتفُ

ويقول أخوه متمتم بن نويرة:

ولقد غدوتُ على القنيصِ وصاحبي       نَهدٌ مراكِلُهُ مِسحٌ جُرشُع
داويْتُهُ كلَّ الدواءِ وزدتُهٍُ       بذلاً كما يعطِي الحبيبُ الموسِعُ
فله ضريبُ الشول إلا سؤره       والجلُّ فهو ملببٌ لا يُخلَع

إنه يبذل كل الجهد للعناية بفرسه، ويحرص على القيام بشئونه، والمحافظة على نظافة طعامه. "فله ضريب الشول الأسؤرة". فهو لا يسقيه الشول خشية أن يكون فيه أقذاء. ويبلغ اعتزاز العربي بفرسه حدًّا يجعله يضحي بأهله في سبيل تكريم فرسه، والمحافظة عليه. فهذا عنترة العبسي يهدد امرأته ويعنفها أشد التعنيف، ويصارحها مصارحة جارحة فيقول:

تصوير الدكتور نصر مرعي
لا تذكري مهري وما أطعمته       فيكون لونك مثل لون الأجرب
ٍإن العبوق له وأنت مسوءةٌ       فتأوهي ما شئت أو فتحوبي
كذب العتيق وماء شن باردٌ       إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي
ٍإني لأخشى أن تقول حليلتي       هذا غبارٌ ساطعٌ فتلبب
إن الرجال لهم إليك وسيلة       إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وأنا امرؤ إن يأخذوني عنوة       أقرن إلى سير الركاب وأجنب

إنه يفصح عما يخامر نفسه دون مواربة أو تلميح، فهو يخشى الأسر حينما تشتد المعارك وتصبح الدائرة على قومه، ذلك أنه قد يستهجن فيستبعد فيقرن إلى سير الركاب لمهانته عندهم، وهو في أول الأبيات يعلم امرأته أن الإكرام والغبوق لفرسه دونها، وإن لم ترض فلها الإهانة والتحقير.

وقال الأعرج الطائي:

أَرى أُمَّ سَهلٍ ما زالَ تَفَجَّعُ       تَلومُ وَما أَدري عَلامَ تَوَجَّعُ
ٍتَلومُ عَلى أَن أَمنَحَ الوَردَ لَقحَةً       وَما تَستَوي وَالوردَ ساعَةَ نَفزَعُ
إِذا هِيَ قامَت حاسِراً مُشمَعِلَّةً       نَخيبَ الفُؤادِ رَأسها ما يُقَنَّعُ
ٍوَقُمتُ إِلَيهِ بِاللِجامِ مُيَسّراً       هُنالِكَ يَجزيني بِما كُنتُ أَصنَعُ

ويتعرض الفرسان إلى لوم شديد من زوجاتهم من أجل بيع أفراسهم؛ مما يعانين من شظف العيش وقسوة الصحراء، وقد تغريهم أحيانًا أثمان الخيل الطائلة، ولكن يواجهن بالردود القاسية.

يقول عيينة بن أوس الملكي:

تصوير الدكتور نصر مرعي
تقول أنا الحرى لقيت مشقة       من الحش والأخلاق والوجه ساهم
ٍفقالت لها الأخرى لتسمع قولها       هو اليوم إن باع النعامة ناعم
وما الناعم المغبوط إلا الذي له       غنى وهو مكفي المؤونه ناعم
ٍوقالت سيعطي بالفلوة أربعًا       وبالمهرة الأخرى ثمان جوازم
ولست بشاريهن ما لم تطلقي       ولو لمتني أو لامني لك لائم
         

وهنا يحسم الموضوع أمام هذه الإغراءات، ويخبر زوجته في حالة إصرارها على بيع أفراسه، بأن سيكون نصيبها الطلاق. وهذا مقعد بن شماس السعدي يخاطب امرأته فيقول:

أتأمرني بكنزة أم قشع       لأشريها فقلت لها دعيني
ٍفلو في غير كنزة تعذليني       ولكني بكنزة كالضنين
فلا وأبيك لا أحبو خليلاً       بكنزة ما حييت فلا تهوني
ٍرأت جاراتها خدرن ربطً       وأكثر فوقهن من العهون

ونحن هنا أمام رجل يعز امرأته كل الإعزاز، ويكرمها أشد الإكرام. (فلو في كنزة تعذليني): فهو على استعداد بأن يجيب جميع طلباتها، ولكنه لا يريدها أن تتعرض (لكنزة) فتنحط منزلتها عنده (فلا تهوني).

ومما يثير العجب أن نرى بعض الفرسان ينال ممن تربطه بهم أواصر القربى والرحم، حينما عرضوا أفراسهم للإهمال، فعنترة العبسي يعرض بأمه ويهين أخوته؛ لأنهم أساءوا رعاية فرسهم؛ فيقول:

تصوير الدكتور نصر مرعي
أَبَني زَبيبَةَ ما لِمُهرِكُمُ       مُتَخَدِّداً وَبُطونُكُم عُجرُ
ٍأَلَكُم بِآلاءِ الوَشيجِ إِذا       مَرَّ الشِياهُ بِوَقعِهِ خُبرُ
إِذ لا تَزالُ لَكُم مُغَرغَرَةٌ       تَغلي وَأَعلى لَونِها صَهرُ
لَمّا غَدَوا وَغَدَت سَطيحَتُهُم       مَلأى وَبَطنُ جَوادِهِم صِفرُ

 

وَلِكَي يَبيتَ عَلى فِراشِهِمُ فَتى       باعوا جَوادَهُمُ لِتَسمَنَ أُمُّهُم
بادٍ جَناجِنُ صَدرِها وَلَها غِنىٍ       لَكِن قَعَيدَةُ بَيتِنا مَجفُوَّةٌ
أَو جُرشُعاً عَبلَ المَحازِمِ وَالشَوى       تُقفي بِعيشَةِ أَهلِها مَلبونَةً
أَنَّ الحُصونَ الخَيلُ لا مَدَرُ القُرىٍ       وَلَقَد عَلِمتُ عَلى تَجَنُّبِيَ الرَدى
كَأَصابِعِ المَقرورِ أَقعى فَاِصطَلى       يَخرُجنَ مِن خَلَلِ الغُبارِ عَوابِساً
تَنجي مِنَ الغُمّى وَيَكشِفنَ الدُجى       إِنّي وَجَدتُ الخَيلَ عِزّاً ظاهِراً
وَيُثِبنَ لِلصُعلوكِ جَمَّةَ ذي الغِنى       وَيَبِتنَ بِالثَغرِ المَخوفِ طَوالِعاً

ها نحن أمام ثورة من فارس يهم بأمر عظيم، فهو يريد أن يأخذ بثأر أبيه، ويرى أخوته يهملون فرسهم ويشبعون أمهم؛ فيتملكه الغضب ويصب لومه وتعنيفه عليهم ساخرًا منهم مستهزئًا بهم معرضًا بأمهم، ثم يبين ما يولي فرسه من إيثار وعناية وأنها في بيته مقدمة على كل عزيز، ويطلعنا بعد هذه الثورة على نظرة العربي المناضل للخيل فهو يعتبرها الحصون المانعة لاجدر الحجارة، ويسجل لقطة فنية رائعة لانبعاث الخيل في غاراتها معطيًا لوحة مبدعة في بيته الفريد: يخرجن من خلل الغبار عوابسًا.

ويتمسك العربي بفرسه وإن قست الظروف وضاقت الأحوال ولو أغرى بالثمن وتعرض للوم. فهذا حاجب بن حبيب الأسدي يخاطب امرأته بعد أن أمطرته لومًا وتأنيبًا فيقول:

تصوير الدكتور نصر مرعي
باتَتْ تَلومُ علَى ثادِقٍ       لِيُشْرَى فقد جَدَّ عِصْيانُهَا
ٍأَلاَ إِنَّ نَجْوَاكِ في ثادِقٍ       سَواءٌ عليَّ وإِعْلاَنُهَا
وقالتْ: أَغِثْنا بهِ إِنَّنِي       أَرَى الخيلَ قد ثابَ أَثْمانُهَا
ٍفقلتُ أَلَمْ تَعْلمِي أَنَّهُ       كَريمُ المَكَبَّة مِبْدَانُهَا
كُمَيْتٌ أُمِرَّ عَلَى زُفْرَةٍ       طوِيلُ القوائِم عُرْيانُهَا
تَرَاهُ على الخيل ذا جُرْأَة       إِذا ما تَقَطَّعَ أَقْرَانُهَا
وَهُنَّ يَرِدْنَ وُرُودَ القَطَا       عُمَانَ وقد سُدَّ مُرَّانُهَا
طَوِيلُ العِنَان قليلُ العِثَار       خَاظِي الطَّرِيقَةِ رَيَّانُهَا
وقلتُ: أَلَم تَعْلَمِي أَنَّهُ       جَمِيلُ الطُّلاَلَةِ حُسَّانُهَا
يَجُمُّ على السَّاق بعدَ المِتَانِ       جُمُوماً ويُبْلَغُ إِمْكَانُهَا

نرى الشاعر هنا يفاجئ امرأته بالرد القاطع، فهو لا يعبأ بسرها وإعلانها في اللوم، إنه لا يلين أمام جميع الإغراءات، وينقلنا الشاعر بلقطة واحدة يحكيها عن امرأته إلى الحالة التي وصلت إليها معيشته، فيقول على لسانها: "أغثنا به". وبمثل هذا البيان الموجز استطاع الشاعر الجاهلي أن يبلغ قمة متناهية في القول والتصوير، وبعد أن استمع إلى قول امرأته أعلمها عن موقف جواده في الحرب، وكرم أصالته وشدة نجدته. ونلاحظ أن الشاعر استعمل التقرير الإعلامي المؤكد في الأبيات مرتين، وهو يستغرب من امرأته مع علمها بصفات جواده الكريم أن تدعوه لبيعه وتحثه على ذلك، ثم يستطرد في ذكر محاسن جواده الأصيل ويعدد مزاياه في أبيات أربعة، "ألم تعلمي أنه جميل الطلالة حسانها؟"