الخيل فى عهد أسرة محمد على
صورة مرسومة لمحمد علي باشا يمتطي صهوة جواده
في عهد محمد علي وابنه إبراهيم باشا والأمير طوسون عاد إلى الخيل العربية عزها، وصارت تحظى من جديد بالاهتمام التام. ومن المعروف أن العائلة المالكة المصرية، قامت في شخص مؤسسها والي مصر عام 1805م محمد علي الكبير، الذي خلص إليه حكم مصر بعد مذبحة القلعة عام 1811م فبعد أن قضى على أخر نفوذ مملوكي بعد مذبحة القلعة، لم ينج من أمراء المماليك سوى واحد قفز بجواده من على سطح القلعة، وهوى على الأرض، فمات الحصان ونجا هو بأعجوبة. ومنذ ذلك الوقت تسارعت طموحات محمد علي بالانفصال عن الدولة العثمانية، فوجه حملة عسكرية إلى الجزيرة العربية لمحاربة الدعوة الوهابية، كما وجه حملة إلى سوريا ما بين عامي 1831-1833م، وخلال هذه الحروب والحملات كانت الخيول العربية المأسورة والمجلوبة من سوريا والجزيرة العربية عدة الجيوش، فكثرة إسطبلات تربية الخيول العربية في المعسكرات وفي مزارع الأمراء والنبلاء، وشيوخ القبائل العربية.
الخيل في عهد عباس باشا الأول
وخلال هذه الفترة أهدى الأمير عبد الله بن سعود 1815م (الحاكم الرابع للدولة السعودية الأولى)، مجموعة من أروع الخيول العربية إلى الأمير طوسون ابن محمد علي كتقدمة للصلح، ولكن القدر شاء أن يكون مصير معظم هذه الجياد الأصيلة النادرة إلى الهلاك نتيجة الإهمال والمرض وحتى العطش، حتى كادت أن تهلك جميعًا لولا عباس باشا بن الأمير طوسون الذي بذل جهدًا عظيمًا لإنقاذ ما أمكن إنقاذه، والذي تولى عرش مصر إثر وفاة عمه إبراهيم باشا.
ولد عباس باشا بمدينة جدة بالحجاز، ونشأ فيها، إذ كان والده الأمير طوسون باشا في شبه الجزيرة يدير دفة الحرب ضد الوهابيين، وأيام شبابه كان كثير التردد على بوادي العرب، وعاش مع أحد قبائلها "قبيلة الرولة العنـــزية" وحده لمدة سنة كاملة، وتنقل بين قبائل شمال الجزيرة، وأحب حياة بدو الصحراء وعرف شيوخهم ورجالهم وفرسانهم، وكان يصرف على أصدقائه البدو بسخاء مفرط؛ فأحبوه وأحبهم وأصبح واحدًا منهم في تصرفاتهم وعادتهم وأخلاقهم.
كذلك، كانت هناك علاقة صداقة وطيدة بين عباس باشا والأمير فيصل بن تركي آل سعود (مؤسس الدولة السعودية الثانية)، والذي ترجع علاقته به إلى أيام عمه إبراهيم باشا، حيث يرجع أكثر المؤرخين العلاقة بين الأمير تركي وعباس باشا إلى أن:
الأمير فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، كان قد نفي إلى مصر وحُبس هناك مرتين، الأولى سنة 1818م ثم تمكن من الخروج من حبسه والعودة إلى نجد سنة 1827م، وفي المرة الثانية تم أسره من قبل أحد قادة الحملات المصرية على الجزيرة العربية وهو خورشيد باشا 1838م ونفاهم إلى مصر وحبسوا في قلعة القاهرة، وكان حاكم مصر آنذاك إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، وتمكن الأمير فيصل بن تركي في عام 1842م مع من معه من الهروب من الأسر والعودة إلى نجد على الرغم من الحراسة المشددة وارتفاع مكان الحبس وصعوبة النزول منه. وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن خطة الهروب من السجن والهروب من مصر تمت بمعرفة وبمساعدة تامة من أحد أمراء الأسرة الحاكمة لمصر وهو الشاب الأمير عباس باشا، بدون أن يعلم جده حاكم مصر محمد علي باشا أو عمه إبراهيم باشا.
صورة مرسومة لعباس باشا وهو يمتطي صهوة جواده - محطة الزهراء بالقاهرة
ولما تولى عباس باشا حكم مصر بعد وفاة عمه إبراهيم باشا 1848م، انتهز الإمام فيصل هذه المناسبة ليرد له الجميل؛ فبعث له عددًا من كرائم خيول جزيرة العرب وهو يعرف أن هذه من أثمن الهدايا على قلب صديقه عباس باشا المولع الشغوف بحب خيول العرب الأصيلة، وعندما وصلت هذه الخيول العربية الأصيلة إلى مربط خيل الخديوي عباس باشا في القاهرة فرح بها غاية الفرح وأرسل إلى صديقه حاكم نجد الإمام فيصل بن تركي آل سعود، رسالة يستفسر منه عن أصول هذه الخيول – حسب أصل المرابط ومشجرات النسب لهذه الخيول، فرد عليه الإمام فيصل بأن هذه الخيول الأصيلة هي بالأساس آتية إلى مربط خيله من قبائل جزيرة العرب، ونصحه بأن يرسل له بعثة متخصصة تمكنه تقصي أحوال هذه الخيل. وفعلاً اهتم الخديوي عباس الأول بهذا الأمر وأرسل للإمام فيصل عددًا من الكتبة الاختصاصيين الممتازين الأمناء في نقل المعلومات، ويظهر في كتاباتهم أنهم على علم بأصول الخيل ومن المخالطين لقبائل العربان، وَكّل على رأسهم مملوك الخديوي عباس "علي بك الجماشرجي" المشهور باللالا، الذي ظل يجوب شبه الجزيرة العربية من أقصاها، إلى أقصاها ويستحضر له أفراسًا من أعز مرابط خيل العرب الأصيلة متتبعًا خطواتها مع وعورة المسالك وبعد المسافة وصعوبة المواصلات.
ومن المعروف عن عباس باشا أنه اشترى معظم نسل "صقلاوي جدران" من قبيلة عنزة العربية وبأسعار خيالية مرتفعة.
وتنقل رجال عباس باشا بين جميع قبائل نجد، وقابلوا شيوخ القبائل وأصحاب مرابط الخيل، وكل من له معرفة بأصول الخيل ومواصفاتها. فدونوا هذه المعلومات التي جمعوها من أفواه الرواة ورتبوها ترتيبًا محكمًا راقيًا يثير الانتباه ويجلب الإعجاب والتقدير لمجهودهم الكبير. وعند رجوعهم إلى القاهرة، رتبوا كتابهم ونظموه على أكمل وجه وقدموه إلى عباس باشا في عام 1852 تحت مسمى "أصول الخيل" وبعضهم سماه فيما بعد باسم "مخطوطة عباس باشا عن الخيل"، نتناوله في فصل كامل بالشرح والتحليل.
ولم تمنع صداقة عباس باشا للأمير فيصل من أن يشتري منه فرسين ثمينتين بمبالغ خيالية هما:
- وزيرة: جلابية تدعى جلابية فيصل، أصلها من خيول البحرين، أعطيت لفيصل بن تركي، وأرسلت من قبله إلى عباس باشا، ودفع فيها أربعة آلاف جنية.
- جازية: صقلاوية من خيول الرولة، كانت ضعيفة لا تقوى على السفر الطويل؛ فنقلت من ديار الرولة في سوريا على عربة حتى وصلت القاهرة، ودفع فيها ألف جنيه.
وقد ذكرت الليدي آن بلنت في كتابها (الحج إلى نجد)، والتي ذكرت فيه أحداث رحلتها مع زوجها إلى شمال نجد وحائل بشبه الجزيرة العربية في عام 1297هـ، أن هذه الفرس الصقلاوية العجوز، والتي اشتراها عباس باشا كانت من خيل الإمام فيصل بن تركي، والنسل الأخير لهذه الفرس المشهورة كان قد بيع لعباس باشا، الذي أرسل من مصر عربةً تجرها الثيران خصيصًا لإحضارها، إذ كانت عجوزًا وغير قادرة على السفر سيرًا من قلب نجد إلى أرض مصر. وهذه القصة معروفة تمامًا هنا، ورويت بالضبط كما سمعناها في الشمال.
وأضافت الليدي آن بلنت قائلة: إن صقلاوية عباس باشا أنجبت مهرين في مصر، مات أحدهما والآخر أهدي إلى ملك إيطاليا.
ويذكر صاحب كتاب (الجواد العربي): أن هذه الصقلاوية الأصيلة التي أحضرها عباس باشا على عجلة ثيران هي الأم العليا للأصل الصقلاوي بمصر. ومن ابنتها وأحفادها وحفيداتها ولدت الأفراس الصقلاوية التي صارت مفخرة مرابط أمراء الأسرة الخديوية.
رغب عباس باشا في أن يكون النظام المطبق في تربية الخيل هو نظام البدو في الصحراء ذاته؛ لذا كانت خيوله تدرب قرب هليوبوليس القاهرة والخبراء والمساعدون له هم من البدو، من قبائل معروفة بعنايتها بالخيل مثل: عتيبة، ومطير، وعنــزة، وشمر، والهنادي؛ فعهد إليهم بإدارة بيت الخيول الذي بني فيه قصره، حيث جعل شرفاته تطل على مربط الخيول حتى لا تغيب عن ناظريه. وأوصى وزراءه بالسكن في بيوت مجاورة في منطقة عرفت فيما بعد بالعباسية نسبه إليه. كما أنه ذلل جميع الصعاب التي واجهته في إعادة أعمار مرابط الخيل العربية الأصيلة العائدة لجده "محمد علي"، وصرف مليون جنيه في بناء إسطبلات الدار البيضاء والتي تقع على بعد اثني عشر ميلاً من القاهرة على طريق السويس الصحراوي، والتي مازالت آثارها باقية حتى الآن، فتم بناؤها ما بين عامي 1850 – 1851 م، وزُوِّدت بخزان ماء كان يملأ بالماء المجلوب على ظهور الإبل من النيل مباشرة. كان هذا المكان منقطعا عن الناس ويزوره عباس باشا بين فترة وأخرى، ولم يكن أحد يعرف ماذا يجري في هذا المكان بالضبط؛ لأن المنطقة محاطة بحراسة مشددة تتلقى أوامرها من عباس باشا نفسه، وكم من مرة ساق حارسًا مهملاً إلى الموت؛ عقوبة له على إهماله. وذلك لأهمية الخيول التي تحرس ونوعية سلالاتها، أما البدو المعتبرون وشيوخ القبائل فكانوا موضع ترحيب عند قدومهم إلى هذا المكان.
صورة توضح خادم عباسا باشا وهو يحضر له أفضل أفراس الجزيرة العربية
ومما يجدر ذكره أنه خصص عددًا من الإبل؛ لتروي الإفلاء "أبناء الخيل" والمهار بلبنها، حيث كانت النوق في عهده تُربى وتعلف لأجل الخيل وليس لأجل المزاينات. ومن الجدير بالذكر أيضا أنه من أهم مزايا لبن الإبل أو الناقة أو النوق أو الجمل كما يعرفه الناس هنا في مصر، أنه يحتوي دون غيره من ألبان الحيوانات الأخرى على مركبات ذات طبيعة بروتينية: كالليزوزيم ومضادات التخثر ومضادات التسمم، ومضادات الجراثيم. ويمتاز لبن النوق باحتوائه على فيتامين "ج"، وهو عنصر بالغ الأهمية في المناطق التي لا تتوافر فيها الفواكه والخضروات الطازجة، وهذا ما ينطبق على الصحراء.
ومن القصص العجيبة التي تروى في عشق عباس باشا للخيل وغرامه وتقديره للأصايل: أن الباشا كان قد أهدى ملكة بريطانيا الحصان الصقلاوي "دربي"، لكن هذه الهدية لم تقدر وبيعت للهند، فعندما علم بذلك الباشا غضب غضبًا شديدًا وأرسل إلى البدو الذين ربّوا الحصان وقال لهم: هل تميزوا "دربي"؟ فأقسموا بأنهم سوف يميزونه من بين ألف حصان مشابه له؛ فأرسلهم إلى الهند بصحبة مندوب موثوق، وفعلاً عادوا ومعهم الحصان، وقد استغرق ذلك سنة كاملة، وكما يروى كلف البحث خلال تلك الفترة، 500 جنيه إسترليني.
كذلك قصة الباشا عندما أوفد "علي باشا" إلى الجزيرة العربية؛ ليشتري له خيولاً عربية فاشترى له عددًا من الخيول، وكان من بينها واحدة بيعت وصاحبها في الحج، فلما عاد وسأل عنها أخبروه أنها بيعت لعباس باشا؛ فرفض البيعة وذهب إلى مصر لاسترجاعها، ودخل على عباس باشا وطلب فرسه وكان يحمل نقودها، وقد مضى على البيعة ثمانية أشهر؛ فقال عباس: إننا لا نعرف فرسك؛ لأننا اشترينا خيولاًً كثيرة، فقال: هي التي ستعرفني وإن لم تعرفني فلا فرس لي عندكم؛ فوافقوا على ذلك وأخرجوا الخيل جميعًا، فوقف صاحب الفرس على ربوة مرتفعة وأخذ ينادي فرسه باسمها، فرفعت الفرس رأسها وحركت أذنيها لتميز الصوت، فلما عرفت صوته انطلقت تعدو إليه وأخذت تتمسح بيديه وخديه، فقبلها وبكى من حرارة اللقاء وشدة الوفاء؛ فتأثر عباس باشا وأعطاه فرسه وثمنها، وطلب منه أن يعدهم بمهرة من إنتاجها.
كذلك عندما علم بأن شيخًا بدويًّا أسر خلال حملة محمد علي باشا في الجزيرة العربية، ولا يزال رهن الاعتقال في قلعة القاهرة منذ أكثر من عشرين سنة، أطلق سراحه بشرط أن يحصل له على أحسن جواد في نجد. ووفاء لوعده أرسل الشيخ إلى عباس باشا الحصان "قادر" ذا الجمال الرائع والدم السامي.
كان عباس باشا لا يسمع بفرس أو حصان أصيل إلا ويرسل إلى مالكه طلبًا في شرائه، ويرغبه بالأموال ويضاعف له، وشعر الجزيرة العربية زاخر، ومليء بأشعار فرسان الجزيرة ردًّا على عباس باشا في رفض بيع أصايلهم.
صورة مرسومة لأحد الفحول الشهيرة المملوكة لعباس باشا الأول يقودها خادم عباس باشا
ونذكر ها هنا نبذة من الأشعار في تلك المناسبات، مما حفظ لنا التاريخ الأدبي لهذه البعثات بعض أبناء جزيرة العرب:
فمنها قصيدة الشاعر عبيد العلي الرشيد؛ حيث كان لديه فرس أصيلة وأثيرة في نفسه انتقاها من مرابط خيوله الكثيرة وجربها وخبرها في عدة معارك طاحنة،وكانت هذه الفرس من المربط المسمى (كروش)، وقد ذاع صيتها وسمع بشهرتها "علي بك" مندوب عباس باشا، وقد طلبها منه ورفض طلبه قائلاً قصيدة يوضح فيها أسباب تمسكه بها حيث يقول:
يا بيه أنا لكروش ما أعطي ولا أبيع |
|
قبلك طلبها فيصل وابن هادي |
يا بيه لو كثّرت بالقول ما أطيع |
|
يا حيف تبغيني أسلّم جوادي |
يا بيه ما يرهم على مثلها البيع |
|
ولا يجي مثله بقودة مهادي |
يا بيه أنا مسمع جوابك ولا أطيع |
|
هرجك بمقلة ناظري والفوادي |
شرح البيت الأول: يقول فارس شمر الشيخ عبيد بن علي بن رشيد مخاطبا البيك يا بيه أنا لا أعطي ولا أبيع فرسي الكحيلة "كروش"، فقبلك طلبها مني ليشتريها، الشيخ فيصل الدويش شيخ قبيلة مطير والشيخ محمد بن هادي ابن القرمله شيخ "قبيلة القحطان".
شرح البيت الثاني: يقول: يا بيك، لو كثرت بالقول “أي مهما حاولت لن أبيعك".. يا حيف عليك؟!! كيف تبغيني أبيعك جوادي؟
شرح البيت الثالث: يؤكد عبيد ابن رشيد أن أصل جواده لم يجمع تجميعًا بالقراطيس "الأوراق" أي إن أصل جواده لم يأته من الدفاتر والكتب؛ وإنما أصله "رسنه" معروف عند جميع أهل البوادي؛ لأنه من الخيل العربية الأصيلة المعروفة الرسن "المربط"
شرح البيت الرابع: يقول: إنني أبتغي فرسي إذا ما لقموها "أدخلوا في فمها" المصاريع –الشيكة وعنانها– ثم صاح صياح الحرب، وثار عج "عجاج" طراد الخيل في المعركة.
وقال أيضًا: في فرس أصلها كحيلة عجوز من خيل الأشراف.
حلفت ما تنصين حي من النــــاس |
|
لا بالثمن ولابدرب الجمــايل |
هم ويش لو كز المراسيل "عباس" |
|
ما سلت عن رأس به الزوم طايل |
أنا با "أجا" ما سلت عن باقي الناس |
|
ولولا المعزة ما نزلنا بحـــايل |
ومنها أيضًا قول الشيخ والفارس عضيب ابن حشر شيخ آل عاصم من الجحادر من قحطان حيث كان كان يمتلك فرسًا عربية أصيلة، ذاع صيتها وانتشر خبرها بين العربان، فوصل هذا الخبر إلى عباس باشا؛ فأمر بعثته التي تتجول في الجزيرة العربية، بحثًا عن الخيول الأصيلة بالذهاب إلى الشيخ عضيب؛ لشراء الفرس بأي قيمة كانت، ولكن الشيخ عضيب رفض بيع فرسه ولو كان الثمن كل مال عباس باشا.
وردّ على البعثة بهذه القصيدة يقول الشيخ عضيب:
يا سابقي حبك مقيمٍ على ساس |
|
مولعٍ في حبك القلب توليع |
حلفت لو ساموك بفلوس عباس |
|
إني شفيعٍ فيك لا أصخي ولا أبيع |
ولا دخل قلبي من البيع هوجاس |
|
وإن زودوا لي بالثمن قلت ما أطيع |
يا ماحلاً لا شلّت الذيل والرأس |
|
مثل المهاة اللي تهاب المتابيع |
ومن مغالاتهم في الخيل أن أحد رؤسائهم؛ عبد الكريم الجرباء حين طلب منه "علي بك" مندوب عباس باشا فرسه الكحيلة، وأبدى عزمه على أخذها منه بثمن أو بغير ثمن لم يستكن ولم يلن، بل قال هذه القصيدة التي تدل على اعتزازه بفرسه، وعدم انقياده لرغبة مندوب الباشا فقال:
أرسلت لي يابيه خط يروعي |
|
تطلب عذاب ملاويات الفروع |
ابغي إلى ما خضبن الجموعي |
|
اثني عليها من جموع الطنايا |
يا بيه ما هي قنبرٍ بالصحوني |
|
هذه كحيلة مثل عنز البدون |
البيع والله ما نبيع الكحيلة |
|
إلا ولا نصحي بها ربع ليلة |
أبي إلى ما سندوا مع طويلة |
|
أثني عليها عند تالي الرذايا |
ما همني البيه ولا هم شريف |
|
حنا منز حت العدا والحفيف |
بالغصب ما نعطي عدال الرغيف |
|
وعند الرضا حنا كبار العطايا |
صورة مرسومة توضح خادم عباس باشا وهو يسوق أفضل أحد الأفراس العربية الأصيلة
كان عباس باشا يفاخر بخيله الأوروبيين، حتى إن البارون الألماني جوليوس فون هيغل، رئيس مزرعة "فيورتيمبرغ"، والذي جاء إلى القاهرة لشراء الخيول العربية من عباس باشا لصالح الملك "فورتمبرغ"، والذي أسس مربطًا للخيول العربية عام 1817، يقول في مذكراته عن مقابلته لعباس باشا: "كان عباس باشا لا يكثر من الحديث عن الخيول أمام أحد من الغرباء؛ خشية أن يطلبوها منه. وعندما التقيت به صدفة مع حشد من ندمائه، استدرجته للحديث عن الخيل بشكل عام لعلي استطلع مبادئه عن تربية الخيول. بدأ يسأل عن استيراد الأوربيين للخيول! ثم تطرق إلى مواصفات الخيول العربية وأهميتها وبعد أن أجبت على تساؤلاته قال: رغم أنني واثق من أنكم نجحتم في تربية خيل عربية أصيلة في أوروبا، إلا أنه يجب ألا تتخيلوا أن ما ولد عندكم هي جياد عربية أصيلة؛ لأن هناك صفات لا تولد في الحصان العربي ولكنه يكتسبها فقط مادام يتنفس هواء الصحراء".
ويستطرد هيوغل في كلامه فيقول: إن عباس باشا كان يملك خلال تلك الفترة التي زرت فيها مصر حوالي ألف رأس من الخيل، ولكنه لا يمكن "غير المسلمين" من رؤيتها أبدًا، كما يروي الباشاوات حرص البدو وتحاملهم على كل غريب يزور المرابط خصوصًا عندما يكون من غير المسلمين، والذين كان يحظر عليهم الاقتراب من المنطقة أو الإسطبلات، وبالرغم من أني قد زكيت من قبل المقربين من الباشا، فأنه كان من المستحيل علي أن أرى مثل هذه الإسطبلات حتى إن كان عن بعد، مع أنني أهديت للمرابط الباشاوية حصانين هدية من ملك فيورتيمبرغ، ومقابل ذلك كله استلمت طلوقة من الخيل هدية للملك، إلا أنه لم يتسنّ لي رؤية خيول عباس باشا. وفي يوم ركبت إلى الصحراء باتجاه السويس قبل الغسق لكي ألقي نظرة خاطفة على الساسة ومدربي الخيل وهم يعودون بالخيل إلى الدار البيضاء في ركوبهم الليلي، إلا أن هذه الرحلة كادت أن تتحول إلى مشكلة عندما تأكدت أنهم يعتبرون عين المسيحي أو غير المسلم هي بمثابة شر، وأنه حسود وحقود، فحقده وحسده قد يجلب النحس على الخيول.
ومما يذكر أن الحصان الذي أهداه عباس باشا للملك الألماني هو "هدبان" من الخيول السبعة من عنزه عام 1848م، وبالإضافة إليه قام مندوبو الملك بشراء مهرتين رماديتين اللون؛ الأولى صقلاوية والثانية من سلالة كحيلان العجوز فنقلت إلى ألمانيا.
كذلك اتبع عباس باشا تجربة أخذ الخيول من مرابطها عن طريق الشراكة، إذ كان البدو يقدمون له أفضل ما عندهم من خيول بشرط أن ينالوا مهرًا أو مهرين مولودين منها، ولولا هذا الشرط لما رضي البدو على مفارقة خيولهم، التي كان يقدمونها له بأي شكل، وفي مثل هذه الأوقات كان عباس يستضيف البدو ويقدم لهم هدايا، لذلك قوي نفوذه على القبائل كثيرًا.
لقد مارس عباس باشا تربية الخيول أكثر من عشرين عامًا؛ حيث ظل في حكم مصر خمس سنوات ونصف السنة وذكر أنه مات مقتولاً سنة 1854م بتحريض من عمته نازلي بنت محمد علي، التي كان قد اضطهدها وحاول قتلها مما دفعها إلى السفر إلى الأستانة خوفًًا من بطشه، وقد أشيع أيضًا بأنه مات منتحرًا وهناك من يقول: بأن حُرّاسه دسوا له السم انتقامًا منه لقسوته، وهكذا طويت صفحة عباس باشا وحرصه على الخيول العربية.